في البداية أود أن أتقدم بالشكر للقائمين علي هذا الموقع، فجزاكم الله خيرًا. ثم أود أن أطرح تجربة مررت بها، وأن أعلم هل ما قمتُ به هو الصواب أم لا؟
تقدم لخطبتي شابٌّ ذو خلق ودين - أحسبه كذلك - بناءً علي شهادة معظم من حوله، وهو - أيضًا - مناسبٌ من ناحية المؤهِّل الدراسي؛ حيث أعجبني فيه طموحه وإرادته العالية؛ فقد أنهي الثانوية العامة، ودخل كليةً أدبيةً، ثم ترك الكلية وذاكر من جديد في الثانوية العامة، ثم التحق بكلية الهندسة، ولكنه يسير علي منهج وفكر إسلامي معين، وأنا أسير علي منهج وفكر إسلامي آخر، وكان يكبرني بما يقرُب من 12 عامًا، وكان يتحدث عن نفسه بأنه عصبي، ولكن طبعي يتسم بالهدوء، فاستشرت كثيرًا ممن حولي.
واختلفت الآراء: منهم من يوافق، ومنهم من يرفض، وصليت صلاة استخارة، فلم أشعر بالراحة، برغم الأشياء الكثيرة التي كنت أراها فيه من محاسن، وحسن الخلق، والدين، والمحافظة على الصلاة في وقتها، بالإضافة إلى روحه المرحة، وأسلوبه الراقي في الحديث.
و - في النهاية - رفضت الموضوع؛ لما وجدته من عدم الراحة بعد الاستخارة، ولأن كل واحد منا يحمل أفكارًا لا يحملها الطرف الآخر، والمشكلة التي أعاني منها حاليًّا: هي التفكير في هذا الشاب كثيرًا، وأحيانًا - وليست بالقليلة - ما ألوم نفسي علي ما قمت به، وأشعر بالضيق، فكثيرًا ما تحدثني نفسي الآن: بأنه كان مناسبًا، وأنَّى يتقدمُ لي مثلُه؟! فأرجو النصح والإرشاد، و - أيضًا - الحديثَ عن صلاة الاستخارة. وبارك الله فيكم.
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ.
أمَّا بعدُ:
فلا بد أن تعلمي أن رفضك لهذا الشاب، هو من قدر الله - تعالى - وسواءٌ عملت بالاستخارة، أو كان ما شعرت به من عدم الارتياح، هوى في نفسك؛ بسبب اختلافكما في الفكر والمنهج، فكِلَا الأمرين، من الأسباب التي عُلِّق قدر الله في الرفض بها، وقد علَّمنا النبي - صلى الله عليه وسلم – ألا نتأسف على ما مضى، وأن نقطع الطريق على الشيطان، ونقول: قدر الله وما شاء فعل؛ ففي الصَّحيح عن أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم –: ((المؤمن القوي، خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجِز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإنَّ "لو" تفتح عمل الشيطان)).
فما قدّره الله على العبد يَجِب الاستسلامُ له؛ فإنه مِنْ تَمام الرِّضا بالله ربًّا حتى ولو كان فواتُ هذا الشابِّ خسارة فالمؤمِنُ مأْمُور عند المصائب أنْ يصبرَ ويُسَلِّمَ، قال الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11]، قال ابن مسْعود: هو الرجُل تُصيبه المصيبةُ، فيَعْلم أنَّها مِنْ عند الله، فيرضى ويُسَلِّم، ولذلك احتجَّ آدمُ عليه السلام بالقدَر على المصيبة، لا على الخطيئة فحجّ موسى عليه السلام، ففي الصحيحَيْن: عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((احتج آدمُ وموسى، فقال له موسى: يا آدم، أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة! قال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمْرٍ قدَّره الله عليَّ قبْل أن يخلقني بأربعين سنة؟! فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى – ثلاثًا -)).
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع فتاوى ابن تيميَّة" (2 / 494):
"فالمؤمنون إذا أصابَتْهم مصيبةٌ - مثل: المرَض والفقر والذُّل - صبَرُوا لحُكْم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنْب غيرهم، كمَنْ أنْفَق أبوه مالَه في المعاصي، فافْتَقَر أولادُه لذلك، فعَلَيْهم أن يصْبروا لما أصابَهم، وإذا لامُوا الأبَ لِحُظُوظِهِمْ، ذَكَر لهمُ القدَر".
ولْتعلمي - رعاكِ الله - أن الإيمانَ بالقضاء والقدَر من أعظم أركان الإيمان، وأنَّ ما شاء الله كان وإن لَم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث تفريج الكرب: ((ماضٍ فيَّ حُكمك، عدْل فيَّ قضاؤك))، فهو سبحانه آخذ بنواصي خلقه يُصرِّفهم كما يشاء بالعدْل والحكمة، والإحسان والرحمة؛ قال الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ﴾ [الحديد: 22].
قال الحسن: إن الله ليقضي القضية في السماء، ثم يضرب لها أجلاً أنه كائن في يوم كذا وكذا، في ساعة كذا وكذا، في الخاصة والعامة، حتى إن الرجل ليأخذ العصا ما يأخذها إلا بقضاءٍ وقدَر.
وروى مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كَتَبَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقَ السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء)).
وروى أحمد في المُسْند عن عبادة بن الوليد بن عبادة: حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلتُ: يا أبتاه، أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني، قال يا بني: إنَّك لن تَطْعَم طعم الإيمان ولَم تبلغْ حق حقيقة العلم بالله - تبارك وتعالى - حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: قلت: يا أبتاه، فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إنِّي سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ أول ما خلق الله - تبارك وتعالى - القلم، ثم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة))، يا بني، إن متَّ - ولست على ذلك - دخلت النار".
وعن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر، فحدِّثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي، فقال: ((لو أن الله عذب أهل سماواته، وأهل أرضه، عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانتْ رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا في سبيل الله، ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لَم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا، لدخلت النار، قال: ثم أتيت عبدالله بن مسعود، فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان، فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت زيد بن ثابت، فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك)).
اسم الكاتب: الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي
مصدر المقال: موقع المستشار